التخطي إلى المحتوى الرئيسي

استأنف حياتك (1)

استأنف حياتك (1)

الإنسان لا يختار مصيره، لكنه يختار عاداته، وعاداته تصنع مصيره.

عشت عمر طويل في رحلة تطوير ذاتي ولم أجد عنصراً بشرياً يصنع فارقاً في حياة الإنسان مثل تشكيل عادات ذهبية. لم أمارس مهارة ما ولم أبدأ اهتمام جديد أو مشروع شخصي أو مهني إلا وكانت العادات أحد أسباب وصولي لأهدافي بجدارة، بل كانت دافعاً ومحركاً لأغير نفسي إلى الأفضل ... وأصبح أفضل نسخة من ذاتي، هذا الحلم المنشود لشريحة واسعة من الشباب اليوم.

تقف العادات الجيدة وراء العديد من الإنجازات العظيمة والتحولات الكبرى في حياة الكثير من عظماء الحاضر والماضي، في هذا الكتاب سوف نتحدث عن كيف يمكن أن تساعد العادات الذهبية على صناعة الحياة المتألقة والناجحة. ولو تأملنا في شتى جوانب حياتنا، لرأينا تأثير العادات تقريباً على كل شيء، على النجاح الدراسي، والنجاح المهني، والنجاح الأسري، والنجاح في العلاقات، حتى على النجاح بعلاقتنا مع الله عز وجل، وفي ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ دْومُها وإن قَلَّ).

من المؤكد أنه إذا استطعنا أن نكتسب عادات جيدة ونركز على تطويرها والمحافظة عليها والتخلص من العادات السيئة باستمرار ستصبح حياتنا أفضل، وسنمتلك قوة حقيقة تجعل دائرة الإمكان في واقعنا أكبر من دائرة المستحيل. روتيننا اليومي، من وقت استيقاظنا لصلاة الفجر صباحاً حتى إغلاقنا للكتاب والذهاب للنوم آخر اليوم، مليء بأفعال وخيارات لا حصر لها، معظمها بلا شك عادات، فستكون حياتناً إذن وفقاً لتلك العادات، فإذا كانت عاداتنا جيدة ستكون حياتنا كذلك، والعكس صحيح.

العادات تشكل حياتنا، وتعتبر قوة مهمة تتمسك بها أدمغتنا للقيام بالأشياء وتخلق رغبة شديدة في جهازنا العصبي حيث نكافئ أنفسنا بعد ممارستنا للعادة بإطلاق مواد كيميائية تجعلنا نشعر بمتعة نريدها باستمرار وبازدياد، تضمن لنا استمرارية العمل وبالتالي استمرارية حياتنا. تتشكل العادات من أفعالنا اليومية التي تصبح أكثر قوة ورسوخ كلما أديناها، والعادات منها الجيد مثل ممارسة الرياضة والاستيقاظ باكراً وشرب الماء بانتظام، ومنها ما يكون سيئاً، مثل السهر والجنوح للمرفهات بإفراط وصرف الوقت بالتوافه. فحياتنا كما قلنا نتاج لعاداتنا.

 نحن البشر بطبيعتنا، مخلوقات من العادة، 45% من الأنشطة اليومية تنشأ من العادة ويتم تنفيذها تلقائياً دون تفكير كبير، تخيل أنه ما يقارب نصف من التصرفات التي نقوم بها هي من العادات التي اكتسبناها ونقوم بها دون تقييم فقد تكون جيدة أو سيئة وضارة أحياناً. لذلك نقول إن إضافة عادة جيدة جديدة والتخلص من عادة سيئة أمر عظيم، لذا فالتركيز على العادات والسيطرة عليها سيجعلنا نسيطر على نصف ما نفعله في حياتنا، أليست هذه صفقة مربحة في حياة الواحد منا.

نظراً لأن العادات تحدث خارج نطاق الوعي في الغالب، فالإنسان بطبيعته لا يدرك ما لا يعيه، لذا فهي أكثر أهمية مما نتخيل، ومن وجهة نظري أن الاهتمام الذي سلط على أهمية العادات ليس كافياً حتى الآن. العادات هي الأساس الأساسي لأي ممارسة إنتاجية، وجود مستويات عالية من الالتزام والانضباط الذاتي هو ببساطة مجموعة من العادات القوية، التي تم تطويرها ورعايتها بوعي في البداية وظلت تنمو حتى أصبحت راسخة، لذلك أقول إن النجاح بين عشية وضحاها هو خرافة يتم تداولها لصرف عقول الناس عن سنة التدرج الثابتة، ليبيعوا لهم الوهم بثمنٍ بخس.

كما ذكرت قبل قليل أن نصف أنشطتنا وممارساتنا اليوم مُحددة سلفاً بسياق العادات ونؤديها دون وعي، لذا أقول دون تردد أن التدهور والسوء ليس أكثر من ديون سلوكية متراكمة، وكومة من العادات الموروثة والمكتسبة التي تُركت دون فحص، فالسيء لا يراجع نفسه لأنه اعتاد على ألا يحاسب نفسه.

العادة هي سلوك تلقائي يحدث من سياقات مواقف محددة، وتلقائية العادات ضرورية لبقائنا، فهي تسمح باستدامة أعمالنا في الحياة، وإني أراها رحمة من الله عز وجل، فتخيل أنك تحتاج لاستحضار وعيك وإدراكك لتتخذ المئات من القرارات التشغيلية الصغيرة في حياتك والتي تتخذها كل يوم دون عناء، لو حدث ذلك أظن أن متوسط الأعمار سيكون أقل من عشرين عام، ولنا في قيادة السيارات خير مثل، تخيل أن حالتك النفسية والذهنية والشعورية والعصبية في أول مرة تقود فيها السيارة يجب أن تعيشها في كل مرة تريد أن تذهب إلى عملك أو جامعتك بسيارتك، ضرب من ضروب العذاب، وعبث بالهورمونات.

يشكل العقل 2٪ فقط من إجمالي الكتلة الإنسانية، لكنه يستهلك 20٪ من إجمالي الأكسجين الذي نستنشقه، بحكم الضرورة، فإن الأدمغة هي أكثر المعالجات كفاءة على هذا الكوكب، وتقوم باستمرار بإجراء المفاضلات الضرورية بين جودة القرار وسرعة اتخاذ القرار، وكل قرار هامشي يتم اتخاذه يأتي على حساب جودة القرار لجميع قراراتنا الأخرى، وأي قرار تلقائي يتم استبعاده يأتي مكانه قرار أهم يتطلب مجهود ذهني أعلى ومعرفة ومعالجة ذهنية أسرع، لو لم تكن العادات موجودة لأصبحت أبسط الممارسات اليومية تتطلب جهداً ذهنياً عالياً يستنزف طاقتنا مبكراً وسريعاً، فالحمد لله رب العالمين على نعمة العادات الجيدة.

إذا لم نقم بتكوين عادات، فسنجد صعوبة في إنجاز الكثير من الأمور في حياتنا، بل أن كثير من المهام سوف تتطلب جهد مضاعف حتى تنجز. في كل مرة نقوم فيها بعمل شيء للمرة الأولى تكون أدمغتنا مشغولة بالكامل، ومن خلال تكوين عادة، يمكن للدماغ أن يحافظ على طاقته للمهام التي تتطلب المزيد من التفكير والمشاركة، إلا أنه من سوء الحظ أن الدماغ لا يستطيع التمييز بين تكوين عادة جيدة وأخرى سيئة، وفي سعيه للحفاظ على الطاقة فإنه يبحث عن أي فرصة ليكون أي عادة سيئة كانت أو جيدة.

إني أؤمن بالمقولة التي تشير إلى أن نتائجنا في الحياة تحددها عاداتنا، فالإجراءات التي نؤديها لتحقيق هدف ما، سوف تقودنا بشكل وآخر إلى تحقيق هذا الهدف، والممارسات اليومية التي نقوم بها بوعي ودون وعي ستقودنا في النهاية إلى تصميم حياتنا، تخيل معي أن تصبح عاداتك اليومية ممارسات تقود إلى العظمة، كالصلاة في وقتها، والقراءة، وممارسة الأعمال الإبداعية، واكتساب المهارات، والاستيقاظ باكراً، وممارسة الرياضة، وتناول طعام صحي، واحترام الوقت، وتحديد مهام اليوم التالي كل ليلة قبل الخلود إلى النوم، وتحديد وتجديد النية قبل كل عمل، والاستزادة من التعلم والتطوير، ورعاية الوالدين وصلة الرحم، وقضاء وقت خالص مع الأسرة والأولاد، والاهتمام بالصحة، ومساعدة وإسعاد الناس، والتفكير الإيجابي، وانفاق المال بحكمة، واستثمار الوقت بالأعمال النافعة في الدنيا والأخرة، وغيرها من العادات الجيدة التي من خلال ممارستها لفترة ليست بقصيرة سوف تنقلك إلى مصاف العظماء.

يقول المختصين أن أي عادة وكل عادة تتكون من ثلاثة أمور: إشارة وروتين ومكافأة. الإشارة هي محفز يبلغ عقلك بالانتقال إلى الوضع التلقائي واختيار الطريقة المعتادة لاستخدامها بهذا الموقف، ثم يأتي الروتين – السلوك أو الممارسة – والذي يمكن أن يكون عقلياً أو بدنياً أو شعورياً. ثم أخيراً تأتي المكافأة التي تجعل عقلك يستكشف ما إذا كانت هذا العادة التي تم ممارستها قبل قليل تستحق التخزين والتكرار في المستقبل. مع مرور الوقت، هذه الثلاثية تصبح تلقائية أكثر ومتجذرة عندما تصبح الإشارات والمكافأة متشابكة عصبياً، إذا فعلت كذا ستكون المكافأة كذا. لذا بعض الدراسات - التي ذُكرت بكتاب قوة العادة للمؤلف تشارلز دويغ – تقول أن الأشخاص الواعيين الذين يربطون إشارات محددة بمكافآت واضحة هم أكثر قدرة على تأسيس عادات إيجابية ثابتة، إذا كنت ترغب في ممارسة الرياضة صباحاً فستنجح إذا جهزت ملابس الرياضة من الليلة السابقة على سريرك (إشارة) وخصصت مكافأة بعد الانتهاء من التمارين مثل تدوين عدد التمارين بدفتر الإنجاز (مكافأة). بعد فترة بسيطة سيبدأ عقلك في توقع تلك المكافأة بل ويشتهيها ويحثك على ممارسة النشاط الذي يحقق لك تلك المكافأة، وسيتكون دافع عصبي قابل للقياس لممارسة الرياضة كل يوم.

كل ذلك يعني أن العادات على أهميتها ليست مصير لا يمكن قهره، يمكن تطوير العادات أو تغييرها أو استبدالها. وتظهر الدراسات أن مجرد فهم كيفية عمل العادات - تعلم بنية تكوين العادات - يسهل السيطرة عليها. بمجرد تفكيك العادة إلى مكوناتها الأساسية، يمكنك التحكم بها.


تعليقات

  1. بارك الله فيك أخي محمد وزادك بسطة في العلم والرزق والعمل والعمر.
    مقال رائع ونحن حقيقة نحتاج هذه النصائح وهذه التطبيقات بشكل ملح في زمن اصبحت فيه العادات السيئة تزداد كل يوم ونزداد فيها غرقا دون تبصر أو رشد.
    بوركت لما تقدمه من جهد نقي وصافي ليجزيك عنه الله خير الجزاء

    مع فائق محبتي ❤️

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سلامة النية - أول يوم إرادة

و نبدأ رحلتنا في الحديث عن الإرادة بالحديث عن إصلاح النية التي بصلاحها تصلح الإرادة و بفسادها تفسد. لو دخل الإنسان فندقاً و رأى كأساً ممتلئ و ظنه خمراً و نوى شربه و بعد ان شربه اكتشف انه ماء كتب له بنيته أثم شرب الخمر. و العكس صحيح. و النية أكثر ما يجب على المسلم أن يعمل على تصويبها لتصبح خالصة، فالعمل دون نية خالصة عناء و هباء: وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا. قل لمن لا يخلص: لا تتعب. يقول الله في الأثر: عبدي طلبت منك قلبك، و وهبت لك كلك، عبدي كلٌ يريدك له، و أنا أريدك لك. الله يعاملنا بما وقر في قلوبنا، و النية مقرها القلب، و القلب لا يتقيد و لا تكتمل السيطرة عليه، و لذلك سُمّي قلباً لأنه يتقلب. و يقول الرافعي: إنّ الله لا يُعامل إلا بالنية ولا يُكتب في سجل الحسنات إلا الأرقام القلبية . و النية: التوجه الروحي و الحضور القلبي عند مباشرة أي عمل، و ليست النية طلباً للأجر، و لكن طلباً للمرضاة و القرب. النية استحضار القلب في اللحظة الآنية، وخلاصة ما يميز أصحاب النوايا: عمل ما يجب بحب. قال الله تعالى: (منكم من يريد الد

محركات الإرادة – ثامن يوم إرادة

تتحرك الإرادة في حالة وجود قضية يؤمن بها صاحب الإرادة، أو في حالة وجود مواعيد لإتمام المهام أو الأهداف، أو أن يحيط الإنسان نفسه بأصحاب إرادة فذة. ثلاثية تحرك الإرادة و تلهبها. أن تعيش لقضية يعني أن تبذل الغالي و الرخيص في سبيلها، تشغل فؤادك و لبك و قلبك و تملئ عليك وقتك عملاً و هماً و أملاً و تخطيطاً و تدبيراً و رسم للمستقبل، قضيتنا نحن المسلمين تتمثل في نشر التوحيد للناس، من خلال تمثيل الدين على أحسن وجه، و أن نكون نماذج جذابة لمن يرانا و يتعامل معنا، قضيتنا أن يسود السلام العالم بنشر قيم الدين السمحة، قضيتنا أن نخفف معاناة الناس و نحسن جودة حياتهم من خلال تعاليم الدين التي توصي كل إنسان على أخيه الإنسان أن لا يظلمه و لا يبغي عليه و لا يخونه و لا يغشه و لا يكذب عليه، قضيتنا أن ينتشر الحق و تتحقق العدالة و يحظى كل إنسان بحريته التي كفلها له الدين و الله. و كيف تتحرك إرادة من لا قضية له. و العيش ضمن خطط عمل قصيرة و طويلة المدى و وضع أهداف مزمنة لتحقيقها، يضغط على الإنسان لتتحرك إرادته في استثمار وقته و جهده و طاقته في أداء ما عليه من مهام موصلة لأهدافه، إن العيش من غير هدف يعني

سجن الهوية

  سجن الهوية عندما كنت صغيراً تعلقت كثيراً برياضة كرة القدم، خصصت لها الوقت الطويل والجهد الكبير، حتى أني في ذات مرة رأيت أرض واسعة مفتوحة فيها العديد من الأحجار والنفايات والأشواك، فقمت بتجهيزها وتنظيفها لأيام طويلة لتصبح مناسبة للعب مباراة كرة قدم لفريق كامل، أصبحت هذه الأرض ملعباً لفترة وجيزة لبعض الشباب ولم أستطع أن ألعب فيها إلا مباراة واحدة، اليوم هذه الأرض الشاسعة تحوي بيتاً واسعاً وفخماً. كنت أفكر بكرة القدم وأشعر بها وأحلم بارتداء أحذية وملابس المشاهير من اللاعبين آنذاك مثل مارادونا وروماريو ورونالدوا والكابتن ماجد والكابتن رابح، إلا أنني بالحقيقة لم أكن أُحسن ممارسة كرة القدم، ومرات قليلة هي التي لعبت فيها مباريات كاملة، والذكرى الوحيدة المتبقية لي منها هي الركلة الشديدة التي تلقيتها على وجهي من أحد الشباب الذي مصادفةً رأيته قبل يومين بينما أنا أنفذ برنامج تدريبي في أحد الأماكن المخصصة لرعاية المناسبات.. ذكرت هذه القصة بعد رؤيتي لذلك الشخص وأنا أمارس مهنة التدريب. كان هناك سؤال واحد منعني من غض الطرف عن ممارسة الرياضة التي كنت فاشل فيها؛ السؤال هو "إذا لم أكن لاع