ذُهُول
كان الشتاء في أوج صقيعه، والأرض في أبهى تبرجها، فقد تجملت وتزينت وتهيأت
للاحتفال بانصراف عام وقدوم عام، إنه اليوم الأول من سنة جديدة، يومٌ ملتبس بين عامين،
ومازال الناس على قيد الحلم بالقادم الجميل، هكذا كانت الأمنيات، زاهية وباهية.
الناس عند حلول عام جديد، يتخذون قرارات يعجزون في الغالب عن تنفيذها، رغم
العهود التي يقطعونها لأنفسهم والحماس الكبير على إنجازها. وكأنهم قبيل كل سنة
جديدة في حاجة إلى من يثبت لهم أن المستحيل ممكن، رغم أنهم يدركون تمام الإدراك أن
هذا الزمان ما عاد فيه حتى الممكن ممكناً.
وعلى الرغم مما يحدث لهم كل عام إلا أن الأمل كان وَاسِعاً بحلول العام
الجديد، وذلك يتضح لنا من خلال التهاني التي يتبادلونها فيما بينهم، وتلك الإضاءات
التي زينت البنايات الشاهقة، والألوان المبهجة التي انبثقت من الألعاب النارية في
سماء المدينة التي غدت بعد ساعات فقط خاليةً على عروشها.
جميع الناس تنتظر الأيام الأولى من السنة الجديدة بلهفة وشمق وفرح غامر،
وهذه إحدى عجائب الإنسان، فكيف له أن يحتفي بانقضاء سنة من رصيد عمره، وتصبح الأعوام
مجرد أرقام منسابة من سجل الوجود. ومن هنا تحديداً بدأت مأساة الإنسان عندما
وقع في قبضة الأرقام، أرقام الأعوام، وأرقام الأعمار، وأرقام الأرصدة، وأرقام
المتابعين، وأرقام الهواتف. سلسلة أرقام فارغة تقود مصيره في الحياة، فيصبح رهن
الصعود والهبوط لتلك الأرقام.
استيقظ أواب مع إفاقة الشمس على الوجود، فتح النافذة، وعلى غير العادة،
شوارع فارغة من البشر والضجيج، تخفف الجو من لوثة السعي، بدت السماء أكثر صفاءً،
والهواء أكثر لذةً ونقاءً، أين الناس؟ ما هذا الهجوع الغير معهود، على الرغم من أن
البارحة كان الصخب فيها يتغلغل بين شقوق الأزقة والشوارع.
بطرف أحد أصابعه بدأ يحرك شاشة هاتفه، ينتقل من إشعار إلى آخر، رسالة من
صديق يسأل عن الحال، بث مباشر لمشهورٍ تافه يهذي أمام ألوف من أهل الدعة، وبث ثاني
وثالث من مشهور آخر ومطمور أيضاً، والعجيب أنهم يتحدثون عن موضوع واحد، عن مجهول
غزا العالم وعمل حجراً على الكرة الأرضية ومن فيها.
بينما هو يقلب الأخبار المتواترة عن هذا الكائن الَخْفِيّ شعر بالذعر والارْتِيَاب،
ما هذا الكائن الفتّاك الذي ينتقل من إنسان لآخر على عجلة، ويردي ضحاياه واحداً
تلو الآخر دون رويةً وتُؤَدَة.
ثم ذات لحظة، حدث أمر قلما يحدث في الإجازات، دق هاتفه عند الثامنة صباحاً،
بشغف المستيقظ على ارتياع، كان الهاتف يدق على إيقاع المباغتة، وانتظار تلقي خبر
مفجع، كان يخشى الاستسلام لنداء الهاتف الذي يحمل أخبار غير منتظرة في هذا الصباح
الغريب. أبت مخاوفه عليه أن يرد على الهاتف، بعد أن توقف الرنين، وجد الرقم مقيد
باسم مجهول.
زمن الأخبار الجميلة انقضى، يوم كان الهاتف يرن على الأخبار السارة، ترقية،
زيارة صديق، حلول مولود جديد، دعوة للعمرة. كان ذاك في زمن الأبرار، أما اليوم فكل
الهواتف تنذر بشؤم.
قبل سنين، جاءه اتصال من صديقه منيب، مصحوباً بدعوات إلى فيض الرحمات، قال
له بروحه الطيبة وصوته الرضيّ (يا أخي، أنا في طريقي إلى مكة، أريدك أن ترافقني
إلى هناك)، كان ذلك اليوم محبباً إلى قلبه، حيث اختارا أن تكون الرحلة "رحلة
استغفار".
رحل هذا الصديق ورحلت معه تلك الهواتف المبشرة.
تعليقات
إرسال تعليق